حريق سنترال رمسيس: حين اكتشفنا هشاشتنا ووهم تواصلنا الإجتماعي!

حريق سنترال رمسيس: حين اكتشفنا هشاشتنا ووهم تواصلنا الإجتماعي!
بقلم: صفوت مجدي صدقي
“في مساء حار من ليالي شهر يوليو، شب حريق كبير في سنترال رمسيس، ذلك المكان الحيوي الذي يربط بين الكثير من الناس وأعمالهم وعائلاتهم عبر شبكات غير مرئية. لم يكن الدخان وحده يملأ سماء القاهرة، بل كان الصمت الرقمي الذي خيّم على البيوت والشوارع والمقاهي أشد وطأة. توقفت المكالمات، تعثرت الرسائل، تعطلت الأعمال والدراسة، وتجمدت الحياة لوهلة. وهناك فقط اكتشفنا هشاشتنا.. اكتشفنا أن أرواحنا وأيامنا معلّقة بشبكات لم نكن نرى أثرها حتى انقطعت، وأن ساعات قليلة من الانقطاع كانت كافية لكشف هشاشة العالم الذي بنيناه حولنا دون أن ندري.. في هذا المقال، لا نتناول الحادث من زاوية الإجراءات أو التدخلات الرسمية، بل نفتح نافذة للتأمل في الأثر الاجتماعي والنفسي العميق الذي خلفه والذي كشفت لنا مدى الوحدة والعزلة التي نعيشها دون أن ندري! كيف وصلنا لهذا الأمر؟ وهل هناك أمل في الخروج من هذا النفق الرقمي إلى مساحة أكثر إنسانية؟
لماذا وصلنا إلى هذه الحالة؟
“يجب أن تحسن التكنولوجيا حياتك.. لا أن تصبح هي حياتك!”
بهذه العبارة اختصر الكاتب الأميركي ومدرّب التنمية البشرية “بيلي كوكس” واقعنا المعاصر، حيث تحوّلت التكنولوجيا من أداة مساعدة إلى مركز تدور حوله تفاصيل يومنا بالكامل، حتى باتت تهدد علاقاتنا الاجتماعية وتفكك الروابط داخل الأسرة والمجتمع.
لقد وعدتنا ثورة الاتصالات بحياة أكثر سهولة وارتباطاً، لكنها ـ شيئاً فشيئاً ـ قادتنا نحو عزلة صامتة داخل ضجيج إلكتروني لا يهدأ. لم يعد الصمت داخل البيوت يعني راحة، بل مساحة تغمرها شاشات الهواتف وأصوات الإشعارات المتنوعة.. صرنا نبحث عن كل شيء خلف الشاشة: الصداقات، الأخبار، الدروس، الأعمال، وحتى الهروب من مواجهة أنفسنا ومن حولنا ومن مشاكلنا! حين اندلع الحريق في سنترال رمسيس، اكتشف الملايين أنهم لا يعرفون كيف يقضون يومهم بلا هاتف، وكيف يديرون عملهم أو دراستهم دون اتصال دائم، وكيف يتحدثون مع أسرهم بصدق دون وجود شاشة تفصل بينهم. لقد تحول الإنترنت من وسيلة إلى غاية، ومن أداة إلى إدمان.
كيف وأين الحل؟
كيف لنا أن نخترع التكنولوجيا – من أجهزة هواتف نقالة وحاسبات وشبكات الانترنت.. إلخ – ثم نسمح لها أن تعيد تشكيل تفاصيل حياتنا وتحركاتنا وكأننا بلا رأي ولا إرادة؟ هل الحل أن ننسحب ونتقوقع بعيدًا عن عالمنا الرقمي؟! بالطبع لا يمكن أن يكون هذا حلاً ، بل الحل يكمن في أن نستعيد سيطرتنا عليه، أن نكون نحن من يوجّه هذه الأدوات، لا أن نُساق خلفها.(نكون نحنُ أسياد قرارنا!) ويمكن أن يبدأ هذا التغيير من خلال ثلاث خطوات جوهرية: الأولى، إعادة تعريف علاقتنا بالإنترنت، بأن نعود للتعامل معه كوسيلة نافعة لا كإدمان يومي يسحبنا من حياتنا الحقيقية. الثانية، تخصيص أوقات خالية من الهواتف، نعيد فيها صوت العائلة إلى الجلسات، ونمنح أنفسنا لحظات من الصمت الذي يعلمنا الإنصات والاتصال بالذات. الثالثة، إحياء العادات البسيطة التي تبنيناها يومًا ثم أهملناها: قراءة كتاب ورقي، ممارسة الرياضة، التنزه في الشوارع، والحديث المباشر مع الأصدقاء دون حواجز إلكترونية!!
إن الحل يبدأ بالاعتراف بأن لدينا مشكلة، وبأن قدرتنا على تحقيق التوازن بين العالم الرقمي والحياة الواقعية هي الخطوة الأولى نحو بناء أمن نفسي واجتماعي حقيقي.
هل نملك الشجاعة؟!
لقد كان حريق سنترال رمسيس تذكيرًا لنا جميعًا بأن الاعتماد المطلق على التكنولوجيا قد يجعل حياتنا أكثر هشاشة مما نتصور، وأن العزلة التي زرعناها في تفاصيل يومنا قد تتحول إلى وحشة صامتة إذا غابت شاشاتنا فجأة. الإنترنت نعمة إن أحسنّا استخدامها، لكنها قد تصبح قيدًا حين نتركها تسيّرنا دون وعي. وعلينا أن نسأل أنفسنا بصدق بعد هذا الدرس: هل نملك الشجاعة لفصل أجهزتنا قليلًا لنتصل مجددًا بالحياة؟!
هل يمكننا أن نرجع للتواصل مع الآخر الذي أهملناه سواء من الأهل والأصدقاء (التواصل وجهاً لوجه)، هل لدينا الشجاعة لنحترم أوقاتنا؟ ونقدر أنه هبة ونعمة من عند الله سبحانه وعلينا ألا نهدرها في أمور سلبية لا تجدي نفعاً؟! الكرة الآن في ملعبك عزيزي القارئ.. أنت من تقرر! وأنت أيضاً من سوف تحصد نتاج قرارك.
* قالوا:
“التكنولوجيا خادمٌ مفيد، لكنها سيد خطير.” – كريستيان لوس لانغ، مؤرخ نرويجي وحائز على جائزة نوبل للسلام.